Home » » دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب

دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب


الحمد لله الذي خلّص قلوب عباده المتقين من ظُلْم الشهوات ، وأخلص عقولهم عن ظُلَم الشبهات
أحمده حمد من رأى آيات قدرته الباهرة ، وبراهين عظمته القاهرة ، وأشكره شكر من اعترف بمجده وكماله
واغترف من بحر جوده وأفضاله وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر الأرضين والسماوات ، شهادة تقود قائلها إلى الجنات
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، والمبعوث إلى كافة البريات ، بالآيات المعجزات
والمنعوت بأشرف الخلال الزاكيات صلى الله عليه وعلى آله الأئمة الهداة ، وأصحابه الفضلاء الثقات
وعلى أتباعهم بإحسان ، وسلم كثيرا
أما بعد :
فإن اصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها،
وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار
ــــ  أعاذنا الله وإياكم من النار ـ



 سورة المائدة


قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}الآية، هذه الآية الكريمة تدل بعمومها على إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقاً ولو سموا عليها غير الله أو سكتوا ولم يسموا الله ولا غيره لأن الكل داخل في طعامهم وقد قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وإبراهيم النخعي والسدى ومقاتل بن حيان أن المراد بطعامهم ذبائحهم كما نقله عنهم ابن كثير ونقله البخاري عن ابن عباس ودخول ذبائحهم في طعامهم أجمع عليه المسلمون مع أنه جاءت آيات أخر تدل على أن ما سمي عليه غير الله لا يجوز أكله وعلى أن ما لم يذكر اسم الله عليه لا يجوز أكله أيضاً، أما التي دلت على منع أكل ما ذكر عليه اسم غير الله فكقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} في سورة البقرة وقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} في المائدة والنحل وقوله في الأنعام: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} والمراد بالإهلال رفع الصوت باسم غير الله عند الذبح. وأما التي دلت على منع أكل ما لم يذكر اسم الله عليه فكقوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ.. وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فإنه يفهم عدم الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه والجواب عن هذا مشتمل على مبحثين:
الأول: في وجه الجمع بين عموم آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} مع عموم الآيات المحرمة لما أهل به لغير الله فيما إذا سمّى الكتابي على ذبيحته غير الله بأن أهل بها للصليب أو عيسى أو نحو ذلك.
المبحث الثاني: في وجه الجمع بين آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}أيضاً مع قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فيما إذا لم يسم الكتابي الله ولا غيره على ذبيحته. أما المبحث الأول، فحاصله أن بين قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وبين قوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} عموماً وخصوصاً من وجه تنفرد آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} في الخبز والجبن من طعامهم مثلاً وتنفرد آية {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} في ذبح الوثني لوثنه ويجتمعان في ذبيحة الكتابي التي أهل بها لغير الله كالصليب أو عيسى فعموم قوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}يقتضي تحريمها وعموم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يقتضي حليتها وقد تقرر في علم الأصول أن الأعمين من وجه يتعارضان في الصورة التي يجتمعان فيها فيجب الترجيح بينهما والراجح منهما يقدم ويخصص به عموم الآخر كما قدمنا في سورة النساء في الجمع بين قوله تعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} مع قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وكما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله:
وإن يك العموم من وجه ظهر
فالحكم بالترجيح حتما معتبر
فإذا حققت ذلك فاعلم أن العلماء اختلفوا في هذين العمومين أيهما أرجح فالجمهور على ترجيح الآيات المحرمة وهو مذهب الشافعي ورواية عن مالك ورواه إسماعيل بن سعيد عن الإمام أحمد ذكره صاحب المغنى وهو قول ابن عمر وربيعة كما نقله عنهما البغوي في تفسيره وذكره النووي في شرح المهذب عن على وعائشة ورجح بعضهم عموم آية التحليل بأن الله أحل ذبائحهم وهو أعلم بما يقولون كما احتج به الشعبي وعطاء على إباحة ما أهلوا به لغير الله قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر والله تعالى أعلم أن عموم آيات المنع أرجح وأحق بالاعتبار من طرق متعدده: منها قوله صلى الله عليه وسلم: "والإثم ما حاك في النفس" الحديث, وقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه". ومنها أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح كما تقرر في الأصول وينبني على ذلك أن النهي إذا تعارض مع الإباحة كما هنا فالنهي أولى بالتقديم والاعتبار لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام بل صرح جماهير من الأصوليين بأن النص الدال على الإباحة في المرتبة الثالثة من النص الدال على نهي التحريم لأن نهي التحريم مقدم على الأمر الدال على الوجوب لما ذكرنا من تقديم درء المفاسد على جلب المصالح والدال على الأمر مقدم على الدال على الإباحة للإحتياط في البراءة من عهدة الطلب وقد أشار إلى هذا صاحب مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار المدلول بقوله:
وناقل ومثبت والآمر
بعد النواهي ثم هذا الاخر
على إباحة الخ...
فإن معنى قوله: "والأمر بعد النواهي" أن ما دل على الأمر بعد ما دل على النهي فالدال على النهي هو المقدم وقوله: "ثم هذا الآخر على إباحة" يعني أن النص الدال على الأمر مقدم على الإباحة كما ذكرنا فتحصل أن الأول النهي فالأمر فالإباحة فظهر تقديم النهي عما أهل به لغير الله على إباحة طعام أهل الكتاب. واعلم أن العلماء اختلفوا فيها حرم على أهل الكتاب كشحم الجوف من البقر والغنم المحرم على اليهود هل يباح للمسلم مما ذبحه اليهودي فالجمهور على إباحة ذلك للمسلم لأن الذكاة لا تتجزأ وكرهه مالك ومنعه بعض أصحابه كابن القاسم وأشهب واحتج عليهم الجمهور بحجج لا ينهض الاحتجاج بها عليهم فيما يظهر وإيضاح ذلك أن أصحاب مالك احتجوا بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قالوا المحرم عليهم ليس من طعامهم حتى يدخل فيما أحلته الآية فاحتج عليهم الجمهور بما ثبت في صحيح البخاري من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مغفل رضي الله عنه على أخذ جراباً من شحم اليهود يوم خيبر وبما رواه الإمام أحمد ابن حنبل عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز وشعير وإهالة سنخة أي ودك متغير الريح وبقصة الشاه المسمومة التي سمتها اليهودية له صلى الله عليه وسلم ونهش ذراعها ومات منها بشر بن البراء بن معرور وهي مشهورة صحيحة قالوا أنه صلى الله عليه وسلم عزم على أكلها هو ومن معه ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أو لا وقد تقرر في الأصول أن ترك الاستفصال بمنزلة العموم في الأقوال كما أشار له في مراقي السعود بقوله:
ونزلن ترك الاستفصال
منزلة العموم في المقال
والذي يظهر لمقيدة عفا الله عنه أن هذه الأدلة ليس فيها حجة على أصحاب مالك أما حديث عبد الله بن مغفل وحديث أنس رضي الله عنهما فليس في واحد منهما النص على خصوص الشحم المحرم عليهم ومطلق الشحم ليس حراماً عليهم بدليل قوله تعالى: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} فما في الحديثين أعم من محل النزاع والدليل على الأعم ليس دليلاً على الأخص لأن وجود الأعم لا يقتضي وجود الأخص بإجماع العقلاء ومثل رد هذا الاحتجاج بما ذكرنا هو القادح في الدليل المعروف عند الأصوليين بالقول بالموجب وأشار له صاحب مراقي السعود بقوله:
والقول بالموجب قدحه جلا
وهو تسليم الدليل مسجلا
من مانع أن الدليل استلزما
لما من الصور فيه اختصما
أما القول بالموجب عند البيانيين فهو من أقسام البديع المعنوي وهو ضربان معروفان في علم البلاغة وقصدنا هنا القول بالموجب بالاصطلاح الأصولي لا البياني وأما تركه صلى الله عليه وسلم الاستفصال في شاة اليهودية فلا يخفي أنه لا دليل فيه لأنه صلى الله عليه وسلم ينظر بعينه ولا يخفي علية شحم الجوف ولا شحم الحوايا ولا الشحم المختلط بعظم كما هو ضروري فلا حاجة إلى السؤال عن محسوس حاضر وأجرى الأقوال على الأصول في مثل الشحم المذكور الكراهة التنزيهية لعدم دليل جازم على الحل أو التحريم لأن ما يعتقد الشخص أنه حرام عليه ليس من طعامه والذكاة لا يظهر تجزؤها فحكم المسألة مشتبه ومن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه وأما البحث الثاني: وهو الجمع بين قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} مع قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فيما إذا لم يذكر الكتابي على ذبيحته اسم الله ولا اسم غيره فحاصله أن في قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وجهين من التفسير أحدهما وإليه ذهب الشافعي وذكر ابن كثير في تفسيره لها أنه قوي أن المراد بما لم يذكر اسم الله عليه هو ما أهل به لغير الله وعلى هذا التفسير فمبحث هذه الآية هو المبحث الأول بعينه لاشيء آخر.
Share this article :

إرسال تعليق